فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله: {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك} أي بأن خوف قومك وحذرهم {من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} يعني الغرق بالطوفان والمعنى إنا أرسلناه لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا {قال يا قوم إني لكم نذير مبين} أي أنذركم وأبين لكم {أن اعبدوا الله} أي وحدوه ولا تشركوا به شيئا {واتقوه} أي وخافوه بأن تحفظوا أنفسكم مما يؤثمكم {وأطيعون} أي فيما آمركم به من عبادة الله وتقواه {يغفر لكم من ذنوبكم} أي يغفر لكم ذنوبكم.
ومن صلة وقيل يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان وذلك بعض الذنوب {ويؤخركم إلى أجل مسمى} أي إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون}، معناه يقول آمنوا قبل الموت تسلموا من العذاب فإن أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يؤخر، قال الزمخشري إن قلت كيف قال ويؤخركم مع الإخبار بامتناع تأخير الأجل وهل هذا إلى تناقض قلت قضى مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه وهو الوقت الأطول تمام الألف.
ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ولم تكن حيلة فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير عنكم وحيث يمكنكم الإيمان، {قال} يعني نوحا {رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} أي نفارا وإدبارا عن الإيمان {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم} أي ليؤمنوا بك فتغفر لهم {جعلوا أصابعهم في آذانهم} لئلا يسمعوا دعوتي {واستغشوا ثيابهم} أي غطوا وجوههم بثيابهم لئلا يرون {وأصروا} على كفرهم {واستكبروا} عن الإيمان بك {استكبارا} أي تكبرا عظيما {ثم إني دعوتهم جهارا} أي معلنا قال ابن عباس: بأعلى صوتي.
{ثم إني أعلنت لهم} أي كررت لهم الدعاء معلنا {وأسررت لهم إسرارا} قال ابن عباس يريد الرجل بعد الرجل أكلمه سرا بيني وبينه أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا} وذلك أن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم فقال لهم استغفروا ربكم أي من الشرك واطلبوا المغفرة بالتوحيد حتى يفتح عليكم أبواب نعمه وذلك لأن الاشتغال بالطاعة يكون سببا لاتساع الخير والرزق.
وأن الكفر سب لهلاك الدنيا فإذا اشتغلوا بالإيمان والطاعة حصل ما يحتاجون إليه في الدنيا.
وروى الشعبي أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى يرجع فقيل له ما سمعناك استسقيت فقال طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر ثم قرأ {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} الآية قوله بمجاديح السماء واحدها مجدح وهو نجم من النجوم.
وقيل هو الدبران وقيل هي ثلاثة كواكب كالأثافي تشبيها بالمجدح الذي له شعب وهي عند العرب من الأنواء الدالة على المطر فجعل عمر الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفون وكانوا يزعمون أن من شأنها المطر لا أنه يقول بالأنواء.
وعن بكر بن عبد الله أن أكثر الناس ذنوبا أقلهم استغفارا وأكثرهم استغفارا أقلهم ذنوبا.
وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال له استغفر الله وشكا آخر إليه الفقر وقلة النسل وآخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح أتاك رجال يشكون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟ فتلا هذه الآية وقوله يرسل السماء عليكم أي يرسل ماء السماء وذلك لأن ماء المطر ينزل من السماء إلى السحاب ثم ينزل من السحاب إلى الأرض.
وقيل أراد بالسماء السحاب، وقيل أراد بالسماء المطر من قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ** فحلوا حيثما نزل السماء

يعني المطر مدرارا أي كثير الدر وهو حلب الشاة حالا بعد حال.
وقيل مدرارا أي متتابعا {ويمددكم بأموال وبنين} أي يكثر أموالكم وأولادكم {ويجعل لكم جنات} أي البساتين {ويجعل لكم أنهارا} وهذا كله مما يميل طبع البشرية إليه {ما لكم لا ترجون لله وقارا} قال ابن عباس أي لا ترون لله عظمة.
وقيل معناه لا تخافون عظمته فالرجاء بمعنى الخوف، والوقار العظمة من التوقير وهو التعظيم.
وقيل التعظيم وقيل معناه ما لكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة وقيل معناه ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرا {وقد خلقكم أطوارا} يعني تارة بعد تارة وحالا بعد حال نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى تمام الخلق.
{ثم يعيدكم فيها} أي في الأرض بعد الموت {ويخرجكم} أي منها يوم البعث {إخراجا} يعني إخراجا حقا لا محالة {والله جعل لكم الأرض بساطا} أي فرشها لكم مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه {لتسلكوا منها سبلا فجاجا} أي طرقا واسعة.
قوله تعالى: {قال نوح رب إنهم عصوني} أي لم يجيبوا دعوتي {واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا} يعني اتبع السفلة والفقراء القادة والرؤساء الذين لم تزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا وعقوبة في الآخرة {ومكروا مكرا كبارا} يعني كبيرا عظيما يقال كبيرا وكبارا بالتشديد والتخفيف والتشديد أشد وأعظم في المبالغة والماكرون هم الرؤساء والقادة ومكرهم احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح وتحريش السفلة على أذاه وصد الناس عن الإيمان به والميل إليه والاستماع منه.
وقيل مكرهم هو قولهم لا تذرن آلهتكم وتعبدوا إله نوح، وقال ابن عباس في مكرهم قالوا قولا عظيما.
وقيل افتروا على الله الكذب وكذبوا رسله {وقالوا} يعني القادة للأتباع {لا تذرن آلهتكم} أي لا تتركن عبادتها {ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} هذه أسماء آلهتهم وإنما أفرد بالذكر وإن كانت داخلة في جملة قوله: {لا تذرن آلهتكم} لأنهم كانت لهم أصنام هذه الخمسة المذكورة هي أعظمها عندهم.
قال محمد بن كعب هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا كان أتباعهم يقتدون بهم ويأخذون بعدهم بأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم: لو صورتم صورهم كان ذلك أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا ذلك ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم.
فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم الصالحين من المسلمين، (خ) عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كانت تعبد قوم نوح في العرب بعد.
أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم صارت لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع.
وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس في قوله: {ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا}، قال كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت الأوثان، وروي عن ابن عباس أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات كانت لثقيف والعزى لسليم وغطفان وجشم، ومناة كانت لخزاعة بقديد وإساف ونائلة وهبل كانت لأهل مكة.
ولذلك سمت العرب أنفسهم بعبد ود وعبد يغوث وعبد العزى ونحو ذلك من الأسماء.
{وقد أضلوا كثيرا} أي ضل بسبب الأصنام كثير من الناس.
وقيل أضل كبراء قوم نوح كثيرا من الناس {ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} يعني ولا تزد المشركين بعبادتهم الأصنام إلا ضلالا وهذا دعاء عليهم وذلك أن نوحا عليه السلام كان قد امتلأ قلبه غضبا وغيظا عليهم فدعا عليهم.
فإن قلت كيف يليق بمنصب النبوة أن يدعو بمزيد الضلال وإنما بعث ليصرفهم عنه.
قلت إنما دعا عليهم بعد أن أعلمه الله أنهم لا يؤمنون وهو قوله تعالى: {إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} وقيل إنما أراد بالضلال في أمر الدنيا وما يتعلق بها لا في أمر الآخرة {مما خطيئاتهم أغرقوا} أي بالطوفان {فأدخلوا نارا} أي في حالة واحدة وذلك في الدنيا كانوا يغرقون من جانب ويحترقون من جانب.
واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة عذاب القبر وذلك لأن الفاء تقتضي التعقيب في قوله تعالى: {أغرقوا فأدخلوا نارا}، وهذا يدل على أنه إنما حصل دخول النار عقيب الإغراق ولا يمكن حمله على عذاب الآخرة لأنه يبطل دلالة الفاء، وقيل معناه أنهم سيدخلون نارا في الآخرة فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصدق الوعد في ذلك والأول أصح {فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا} يعني تنصرهم وتمنعهم من العذاب الذي نزل بهم {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} يعني أحد يدور في الأرض فيذهب ويجيء من الدوران.
وقيل أصله من الدار أي نازل دار {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك} قال ابن عباس وغيره كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول له احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي حذرنيه، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك {ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} إنما قال نوح هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم بعد ذلك أرحام النساء وأيبس أصلاب الرجال وذلك قبل نزول العذاب بأربعين سنة.
وقيل بسبعين سنة وأخبر الله نوحا أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله دعوته فأهلكهم جميعا ولم يكن معهم صبي وقت العذاب لأن الله تعالى أعقمهم قبل العذاب {رب اغفر لي} وذلك أنه لما دعا على الكفار قال: {رب اغفر لي} يعني ما صدر مني من ترك الأفضل، وقيل يحتمل أنه لما دعا على الكفار قال: {رب اغفر لي} يعني ما صدر مني من ترك الأفضل.
وقيل يحتمل أنه حين دعا على الكفار أنه إنما دعا عليهم بسبب تأذيه منهم فكان ذلك الدعاء عليهم كالانتقام منهم فاستغفر من ذلك لما فيه من طلب حظ النفس أو لأنه ترك الاحتمال.
{ولوالديّ} وكان اسم أبيه ملك بن متوشلخ واسم أمه سمخاء بنت أنوش وكانا مؤمنين وقيل لم يكن بين آدم ونوح عليهما السلام من آبائه كافر وكان بينهما عشرة آباء {ولمن دخل بيتي مؤمنا} أي داري وقيل مسجدي وقيل سفينتي {وللمؤمنين والمؤمنات} وهذا عام في كل مؤمن آمن بالله وصدق الرسل، وإنما بدأ بنفسه لأنها أولى بالتخصيص والتقديم ثم ثنى بالمتصلين به لأنهم أحق بدعائه من غيرهم ثم عمم جميع المؤمنين والمؤمنات ليكون ذلك أبلغ في الدعاء، {ولا تزد الظالمين إلا تبارا} أي هلاكا ودمارا فاستجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم جميعا والله أعلم. اهـ.

.قال النسفي:

{إِنّا أرْسلْنا نُوحا}
قيل: معناه بالسريانية الساكن {إلى قوْمِهِ أنْ أنذِرْ} خوّف أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل.
ومحله عند الخليل جر، وعند غيره نصب، أو (أن) مفسرة بمعنى (أي) لأن في الإرسال معنى القول {قوْمك مِن قبْلِ أن يأْتِيهُمْ عذابٌ ألِيمٌ} عذاب الآخرة أو الطوفان {قال ياقوم} أضافهم إلى نفسه إظهارا للشفقة {إِنّى لكُمْ نذِيرٌ} مخوف {مُّبِينٌ} أبين لكم رسالة الله بلغة تعرفونها {أنِ اعبدوا الله} وحدوه و(أن) هذه نحو {أنْ أنذِرِ} في الوجهين {واتقوه} واحذروا عصيانه {وأطِيعُونِ} فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وإنما اضافه إلى نفسه لأن الطاعة قد تكون لغير الله تعالى بخلاف العبادة {يغْفِرْ لكُمْ} جواب الأمر {مّن ذُنُوبِكُمْ} للبيان كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِن الأوثان} [الحج: 30].
أو للتبعيض لأن ما يكون بينه وبين الخلق يؤاخذ به بعد الإسلام كالقصاص وغيره كذا في شرح التأويلات.
{ويُؤخّرْكُمْ إلى أجلٍ مُّسمّى} وهو وقت موتكم {إِنّ أجل الله} أي الموت {إِذا جاء لا يُؤخّرُ لوْ كُنتُمْ تعْلمُون} أي لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء أجلكم لآمنتم.
قيل: إن الله تعالى قضى مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن لم يؤمنوا أهلكهم على رأس تسعمائة، فقيل لهم: آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي تبلغوا ألف سنة، ثم أخبر أن الأجل إذا جاء لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت.
وقيل: إنهم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه السلام، فكأنه عليه السلام أمّنهم من ذلك ووعدهم أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا أي أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى أجل مسمى آمنين من عدوكم.
{قال ربّ إِنّى دعوْتُ قوْمِى ليْلا ونهارا} دائبا بلا فتور {فلمْ يزِدْهُمْ دُعاءِى إِلاّ فِرارا} عن طاعتك، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده وإن لم يكن الدعاء سببا للفرار في الحقيقة وهو كقوله: {وأمّا الذين في قُلُوبِهِم مّرضٌ فزادتْهُمْ رِجْسا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125].
والقرآن لا يكون سببا لزيادة الرجس وكان الرجل يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام فيقول: احذر هذا فلا يغرنك فإن أبي قد وصاني به {وإِنّى كُلّما دعوْتُهُمْ} إلى الإيمان بك {لِتغْفِر لهُمْ} أي ليؤمنوا فتغفر لهم فاكتفى بذكر المسبب {جعلُواْ أصابعهم في ءاذانِهِمْ} سدوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي {واستغشوا ثِيابهُمْ} وتغطوا بثيابهم لئلا يبصرون كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله {وأصرُّواْ} وأقاموا على كفرهم {واستكبروا استكبارا} وتعظموا عن إجابتي، وذكر المصدر دليل على فرط استكبارهم.
{ثُمّ إِنّى دعوْتُهُمْ جهارا} مصدر في موضع الحال أي مجاهرا، أو مصدر دعوتهم ك (قعد القرفصاء) لأن الجهار أحد نوعي الدعاء يعني أظهرت لهم الدعوة في المحافل {ثُمّ إِنّى أعْلنْتُ لهُمْ وأسْررْتُ لهُمْ إِسْرارا} أي خلطت دعاءهم بالعلانية بدعاء السر، فالحاصل أنه دعاهم ليلا ونهارا في السر، ثم دعاهم جهارا، ثم دعاهم في السر والعلن، وهكذا يفعل الآمر بالمعروف يبتدئ بالأهون ثم بالأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة في السر فلما لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان.
و{ثُم} تدل على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.
{فقُلْتُ استغفروا ربّكُمْ} من الشرك لأن الاستغفار طلب المغفرة، فإن كان المستغفر كافرا فهو من الكفر، وإن كان عاصيا مؤمنا فهو من الذنوب {إِنّهُ كان غفّارا} لم يزل غفارا لذنوب من ينيب إليه {يُرْسِلِ السماء} المطر {عليْكُمْ مُّدْرارا} كثيرة الدرور ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث {ويُمْدِدْكُمْ بأموال وبنِين} يزدكم أموالا وبنين {ويجْعل لّكُمْ جنات} بساتين {ويجْعل لّكُمْ أنْهارا} جارية لمزارعكم وبساتينكم، وكانوا يحبون الأموال والأولاد فحرّكوا بهذا على الإيمان.
وقيل: لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين، فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب ورفع عنهم ما كانوا فيه.
وعن عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له: ما رأيناك استسقيت! فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر.
شبه عمر الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ وقرأ الآيات.
وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال: استغفر الله.
وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار.
فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا الآيات.
{مّا لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا} لا تخافون لله عظمة.
عن الأخفش قال: والرجاء هنا الخوف لأن مع الرجاء طرفا من الخوف ومن اليأس والوقار العظمة، أو لا تأملون له توقيرا أي تعظيما.
والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب {وقدْ خلقكُمْ أطْوارا} في موضع الحال أي ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه، وهي حال موجبة للإيمان به لأنه خلقكم أطوارا أي تارات وكرّاتٍ خلقكم أولا نطفا ثم خلقكم علقا ثم خلقكم مضغا ثم خلقكم عظاما ولحما، نبههم أولا على النظر في أنفسكم لأنها أقرب، ثم على النظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الدالة على الصانع بقوله: {ألمْ تروْاْ كيْف خلق الله سبْع سماوات طِباقا} بعضا على بعض {وجعل القمر فِيهِنّ نُورا} أي في السماوات وهو في السماء الدنيا، لأن بين السماوات ملابسة من حيث إنها طباق وجاز أن يقال فيهن كذا وإن لم يكن في جميعهن كما يقال: في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها.
وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماوات، وظهورهما مما يلي الأرض، فيكون نور القمر محيطا بجميع السماوات لأنها لطيفة لا تحجب نوره {وجعل الشمس سِراجا} مصباحا يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، وضوء الشمس أقوى من نور القمر، وأجمعوا على أن الشمس في السماء الرابعة {والله أنبتكُمْ مّن الأرض} أنشأكم استعير الإنبات للإنشاء {نباتا} فنبتم نباتا {ثُمّ يُعِيدُكُمْ فِيها} بعد الموت {ويُخْرِجُكُمْ} يوم القيامة {إِخْراجا} أكده بالمصدر أي أيّ إخراج {والله جعل لكُمُ الأرض بِساطا} مبسوطة {لّتسْلُكُواْ مِنْها} لتتقلبوا عليها كما يتقلب الرجل على بساطه {سُبُلا} طرقا {فِجاجا} واسعة أو مختلفة.
{قال نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عصونى} فيما أمرتهم به من الإيمان والاستغفار {واتبعوا} أي السفلة والفقراء {من لّمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ} أي الرؤساء وأصحاب الأموال والأولاد {ووُلْده} مكي وعراقي غير عاصم وهو جمع ولد كأسد وأسد {إلاّ خسارا} في الآخرة.
{ومكرُواْ} معطوف على {لّمْ يزِدْهُ} وجمع الضمير وهو راجع إلى (من) لأنه في معنى الجمع.
والماكرون هم الرؤساء، ومكرهم احتيالهم في الدنيا وكيدهم لنوح وتحريش الناس على أذاه وصدهم عن الميل إليه {مكْرا كُبّارا} عظيما وهو أكبر من الكبار وقرئ به وهو أكبر من الكبير {وقالواْ} أي الرؤساء لسفلتهم {لا تذرُنّ ءالِهتكُمْ} على العموم أي عبادتها {ولا تذرُنّ ودّا} بفتح الواو وضمها وهو قراءة نافع، لغتان: صنم على صورة رجل {ولا سُواعا} هو على صورة امرأة {ولا يغُوث} هو على صورة أسد {ويعُوق} هو على صورة فرس وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين، وللتعريف والعجمة إن كانا أعجميين {ونسْرا} هو على صورة نسر أي هذه الأصنام الخمسة على الخصوص، وكأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فخصوها بعد العموم، وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب؛ فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير.
وقيل: هي أسماء رجال صالحين كان الناس يقتدون بهم بين آدم ونوح، فلما ماتوا صوروهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى العبادة، فلما طال الزمان قال لهم إبليس: إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم {وقدْ أضلُّواْ} أي الأصنام كقوله: {إِنّهُنّ أضْللْن} [ابراهيم: 36] {كثِيرا} من الناس أو الرؤساء {ولا تزِدِ الظالمين} عطف على {رّبّ إِنّهُمْ عصونى} على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد {قال} وبعد الواو النائبة عنه، ومعناه قال رب إنهم عصوني وقال لا تزد الظالمين أي قال هذين القولين وهما في محل النصب لأنهما مفعولا {قال} {إِلاّ ضلالا} هلاكا كقوله: {ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ تبارا} {مّمّا خطيئاتهم} {خطاياهم} أبو عمرو أي ذنوبهم {أُغْرِقُواْ} بالطوفان {فأُدْخِلُواْ نارا} عظيمة وتقديم {مّمّا خطيئاتهم} لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان وإدخالهم في النيران إلا من أجل خطيئاتهم.
وأكد هذا المعنى بزيادة (ما) وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم، وإن كانت كبراهن والفاء في {فادخلوا} للإيذان بأنهم عذبوا بالإحراق عقيب الإغراق فيكون دليلا على إثبات عذاب القبر {فلمْ يجِدُواْ لهُمْ مّن دُونِ الله أنصارا} ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله.
{وقال نُوحٌ رّبّ لا تذرْ على الأرض مِن الكافرين ديّارا} أي أحدا يدور في الأرض وهو فيعال من الدور وهو من الأسماء المستعملة في النفي العام {إِنّك إِن تذرْهُمْ} ولا تهلكهم {يُضِلُّواْ عِبادك} يدعوهم إلى الضلال {ولا يلِدُواْ إِلاّ فاجِرا كفّارا} إلا من إذا بلغ فجر وكفر وإنما قال ذلك لأن الله تعالى أخبره بقوله: {لن يُؤْمِن مِن قوْمِك إِلاّ من قدْ ءامن} [هود: 36] {رّبّ اغفر لِى ولوالدى} وكانا مسلمين واسم أبيه لمك، واسم أمه شمخاء، وقيل: هما آدم وحواء وقرئ {ولولدي} يريد ساما وحاما {ولِمن دخل بيْتِى} منزلي أو مسجدي أو سفينتي {مُؤْمِنا} لأنه علم أن من دخل بيته مؤمنا لا يعود إلى الكفر {ولِلْمُؤْمِنِين والمؤمنات} إلى يوم القيامة.
خص أولا من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عم المؤمنين والمؤمنات {ولا تزِدِ الظالمين} أي الكافرين {إِلاّ تبارا} هلاكا فأهلكوا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: دعا نوح عليه السلام بدعوتين: إحداهما للمؤمنين بالمغفرة، وأخرى على الكافرين بالتبار، وقد أجيبت دعوته في حق الكفار بالتبار فاستحال أن لا تستجاب دعوته في حق المؤمنين.
واختلف في صبيانهم حين أغرقوا فقيل: أعقم الله أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا.
وقيل: علم الله براءتهم فأهلكوا بغير عذاب والله أعلم. اهـ.